الثلاثاء، 28 يوليو 2015

سفر


صباح الخير يا تفاحتي الصغيرة

استيقظت اليوم مبكرا بسبب أحلامي المتوالية وقلقي المسيطر عليها من السفر. نعم، أسافر اليوم مع أمي وتقى إلى خالك عمر في أمريكا، حيث نوينا أنا ووالدك أن تكون ولادتك هناك، ولا أخفي عليك أن هذا القرار لم يكن همه فقط تقديم رعاية صحية أفضل لي ولك، ولكن لأننا غير واثقين تماما من جرأتنا في أن نتخذ لك قرارا بالعيش في مصر فقط، دون أي بدائل أخرى، ربما نخشى أن تتهمينا بالإهمال والأنانية أن قررنا استقبالك في هذه الدنيا في هذا الوقت الصعب بالذات من عمر البلد.

لا أعرف كيف سيكون الوضع وأنت تقرأين هذه الرسالة – إذا قرأتها يومها- ولكن الوضع في مصر في السنوات الأخيرة مؤلم جدا ومربك يا تفاحتي، الوضع هنا يغذينا فقط بمشاعر العجز والقهر وقلة الحيلة، أمك التي اعتادت بين صديقاتها أن تكون مصدرا للأمل والتفاؤل والابتسام، لم تعد ترى في الأمل بغد أفضل هنا سوى سذاجة وطفولة وبراءة يفع لا تقوى عليها، وتزعم أن الهروب هو الحل الوحيد.

أتذكر كيف كنت أردد في صحبتي أن الواقع صحيح مؤلم وبائس، ولكنه لا بد من مبادر يسعى لتغييره، وأننا إذا فكرنا جميعا بمنطق المبادر الساع إلى التغيير، لحدث التغيير فعلا في وقت أقل، ولاستطعنا أن نوفر لأبنائنا ما لم نستطع أن نعش فيه نحن من خير وجمال. ذاك الجمال الذي بات عزيزا في مصر يا حبيبتي.

 نسكن الآن في حلمية الزيتون، وهو حي مزدحم جدا، تطاردنا على مدار شارع واحد ثلاثة أكوام كبيرة من تجمعات القمامة، نعم في الشارع فعلا وليست في صناديق ولا حتى خرابات قديمة، في الشارع تماما حيث من المفترض أن أسير، وأن أحملك، وأن نتنزه وأن تكون سيارتنا – التي لا تتحرك أبدا بسبب الخنقة المرورية – وحيث يجب أن أبدا معك وأنهي كل مشوار لنا أو نزهة. الشوارع مرهقة جدا يا عزيزتي، لك أن تتخيلي مقدار القلق الذي يسيطر علي في رحلة الحمل هذه خلال كل مرة أخرج فيها، وأنا أمسك بطني وأدعوك للتشبث بي وبها في مواجهة كمية غير منطقية ولا مبررة من المطبات والحفر في الشوارع.. ستعتقدين أن الشارع كان مدكوكا أو حجري وغير مرصوف، ولكن هذا غير حقيقي أبدا، نحن نسكن في قلب المدينة! في السنوات الثلاثة الأخيرة تم إعادة رصف الشارع هذا أكثر من 5 مرات.. ولا علاقة لهذا أبدا بالحفر والمطبات والنقر التي تغذي الطريق، وكل طريق في هذه المحروسة.

أنا أخاف عليك، وأخاف علينا أيضا.. نتمنى أن نهرب جميعا من هنا، أن نبدأ حياة جديدة في مكان أفضل، يوفر لنا جمالا وأمانا بتكاليف نفسية أقل، لكن يا تفاحتي قلوبنا عالقة هنا رغما عنا! عالقة بكل ما في الكلمة من معنى ولا أدري إن كان هذا سوء حظ وخيابة أم أنها قلوبنا –سامحها الله- التي لا تهون عليها العشرة. يقول أباك أننا أصبحنا أكبر –سنا- من البدايات الجديدة في أماكن جديدة، وأن وقت هذه المغامرة قد فات، ويناسب أكثر أجيالا أصغر منا، ولكنه يكذب، وهو يعرف أنه يكذب.. لأنه ببساطة عالق أيضا.

نحن عالقين هنا بأهالينا وأصحابنا، بهذا الدفء الذي نسخر منه ونحن نعلم انه في كل دائرة صغيرة من دوائرنا هارب أو معتقل أو يائس أو محبط أو عاطل. عالقين بالأماكن والذكريات والأحلام، عالقين بالبدايات التي بدأناها، وبالخطوط التي رسمناها لحياتنا حتى وإن أحبطت وفشلت ولم تكتمل، عالقين بالمسئولية والضمير والهم الذي لا يغادر أكتافنا، عالقين بالآخر الذي نفكر في خلاصه مثلما نفكر في خلاصنا، ألم أقل لك أنها خيابة وسوء حظ!

نسيت أن أخبرك، نفكر أن نسميك "بهية"، منذ تلك اللحظة التي اقترحنا فيها الاسم نكرر سماع الشيخ إمام يغني "مصر يا أمه يا بهية.. يا أم طرحة وجلابية.."، أربت عليك في بطني وأنا أردد معه:
"الزمن شاب وانتي شابة هو رايح وانتي جاية
جايه فوق الصعب ماشية فات عليكي ليل ومية
واحتمالك هو هو وابتسامتك هي هي
 تضحكي للصبح يصبح
بعد ليلة و مغربية
 تطلع الشمس تلاقيكي معجبانية وصبية
يا بهية"

ندرك تماما رمزية الاسم، ونفخر بها ونصر من أجلها عليه، يذكرنا أصحابنا: "أي تناقض هذا.. تولد في أمريكا طمعا في جنسية أجنبية وتسمى باسم يرمز لمصر". نتردد قليلا، ثم نوافق سريعا على تناقضنا، نعم نحن متناقضون، ونتصالح مع تناقضنا هذا ونحن ندرك أننا نمنح أنفسنا الحد الأدنى من المسامحة الذي تستحقه وسط كل هذا الصخب والصراع والهروب المؤجل.

هل تلمسين في نبرتي شعورا بالذنب؟ لا أستطيع أن أنكر، أنا أشعر بالذنب فعلا، كنت أحب في زمان آخر أن أعلمك حبا أكبر وانتماءا أعمق للمكان، وأن أحقق بك أسطورة الشعلة، تلك رمز العمل والهمة والأمل والتي يسلمها الجيل للذي يليه في إشارة على استكمال مسيرة البناء والسير إلى الأمام. كل ما في الأمر أن شعورا يسيطر علينا هنا أننا نحرك أقدامنا في نفس المكان، نبذل مجهودا كبيرا دون أن نتحرك خطوة إلى الامام، أقول هذا في محاولة لتجنب ذكر حقيقة أننا بالفعل نسير إلى الخلف!

تلك الخيبة التي نشعر بها هي كل ما نفكر في تجنيبك إياه!، نفكر كيف يمكن أن تكون فرص تعليمك أفضل من مكتب تنسيق يقرر مجال دراستك، او سنوات دراسة جامعية لا علاقة لها أبدا بسوق العمل وحقيقته واحتياجاته، أو دراسات عليا يضيع فيها وقتك لإرضاء مشرف هنا وتملق مناقش هناك (ربما لا تعرفين أنه عند مناقشتي لرسالة الماجستير اشتريت بأمر من الأستاذة المشرفة عليّ 20 كيلو سمك بلطي هدية للدكتور الذي أتى لمناقشتي، بحجة أنها هدية تقديرية لمشواره من محافظته البعيدة، أعرف أنه الآخر ضحية نظام لا يقدر علمه ولا مجهوده، ولكن..!!) . نفكر أننا نريد لك جمالا متاحا في الشوارع والحدائق، ورعاية صحية لا تستهر بروحك وتحسبك مجرد عدد بين آلاف آلاف المرضى الغلابة هنا، أستطيع أن أؤكد لك أنه في أي حالة طارئة احتمالات وصول عربة الإسعاف لمحتاجينها احتمالات ضبابية جدا، لا يمكن أبدا الثقة بها.

أحكي لك كل هذا لأخبرك لماذا لم نرحل جميعا –حتى الآن على الأقل-، ولأبرر لك قرار سفرنا لولادتك بالخارج والذي لا أعرف كيف سيبدو لك حينما يسمح لك عمرك بمناقشتنا فيه. نحن هنا يا حبيبتي لأن قلوبنا عالقة بالأماكن والأهالي، وضمائرنا عالقة بالمسئولية الأزلية، نحن هنا رغم كل التكاليف المؤلمة، وهو اختيارنا، اختيار الوقت والمرحلة، هذا كل ما أعرفه. أما سفرنا بك فيمكنك اعتباره احتياط واجب، أو إجراء احترازي، أو خطة بديلة، أو احتراما لاختيارك الذي لا أعرف أبدا كيف سيكون، والذي أعذرك تماما لو جاء مخالفا لاختيارنا.

ما أعرفه تماما أننا سنبذل جهدا جهيدا لتزكية شعورك بالمسئولية نحو نفسك ونحو المكان، ونحو الآخر، ربما لأننا لو لم نفعل لسقطت جلودنا عن وجوهنا من الخزي.  سنخبرك أن بداخلنا مساحة تناقض ولدها العجز وقلة الحيلة، وأن توسيع دائرة اختيارك كان أضعف الإيمان من ناحيتنا، سنبذل جهدنا لاحترام قرارك واختيارك، تماما كما نتوقع منك أن تتفهي اختيارنا، وتتقبلي أعذارنا.

مع حبي وشوقي الكبير لك..
ماما.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق